مدينة بجاية (صالدى ،الناصرية،
وبوجي)
بجاية اسم خالد في تاريخ المغرب العربي
بشكل عام , والجزائر بشكل خاص , أقام فيها الفينيقيون والرومان والوندال
والبيزنطيون خلال عصور غائرة في أعماق الماضي , وعرفها المسلمون حين أصبحت
عاصمة للدولة الحمادية , إحدى كبريات الدول الإسلامية المؤثرة التي سادت الشمال
الأفريقي فترة من الزمن.
فقد تمتعت "بجاية" في ظل
الحماديين بسمعة وشهرة واسعة ,استمدتها من معاهدها الثقافية المتعددة ,
وتجارتها الرائجة على الشاطئ الأفريقي , واستقبالها الفارين من محاكم التفتيش
بالأندلس , كما اشتهرت بعد ذلك بقوتها البحرية التي دافعت بها عن شواطئ المغرب
العربي كله , فساهمت من ثم في الحفاظ على الحضارية والهوية العربية
الإسلامية للمنطقة ... وكان لعهود الازدهار الثقافي والانتعاش الفكري الذي
شهدته (بجاية) لقرون عديدة أثر بالغ في أن تصبح قبلة العلماء وطالبي المعرفة ,
فخرجت العلماء , وأنجبت المفكرين والمبدعين رجالاً ونساء , ولم تفقد تلك الشهرة
وذلك الدور إلا حين امتدت إليها أيدي المستعمرين فخربتها , ودمرت
ماضيها الزاهر.
قلعة بني حماد :
ومدينة بجاية هي ثاني عاصمة لدولة بني حماد
، أما عاصمتهم الأولى فقد كانت مدينة القلعة المشهورة بـ "قلعة بني
حماد" التي اختطها الأمير حماد بن زيري بن مناد بن بلكين ، في حدود عام 398هـ
(1007 – 1008مـ) ليعلنا منها تأسيس الدولة "الحمادية " دولة مستقلة عن
دولة " بني زيري " التي كان على إمارتها في ذلك الوقت باديس بن أبي
المنصور بن زيري ، وهو ابن أخي حماد.
وتتميز قلعة بني حماد التي تقع في الحدود
الشمالية لسهول"الحضنة" بموقعها الاستراتيجي الهام فهي من الشمال محمية
بجبل تاقرست الذي يبلغ ارتفاعه (1418 متراً)
ومن الغرب بجبل قرين (1190 متراً) ويحيط بها من الشرق وادٍ بشكل مضائقه سوراً طبيعياً
للمدنية , أما من جهة الجنوب فإن الطريق الوحيدة المؤدية إلى القلعة عبارة عن ثنية
ملتوية تتبع "وادي فرج " ولذلك كان ابن الأثير ، دقيقاً حين وصفها بأنها
، أحسن القلاع وأعلاها , ولا ترام على رأس جبل شاهق , لا يكاد الطرف يحققها
لعلوها.
وتحدث ابن خلدون في تاريخه عن مراحل تطورها
: فأشار إلى أن حماداً اتم بناءها وتمصيرها على رأس المائة الرابعة , وشيد بنياتها
وأسوارها , واستكثر فيها من المساجد والفنادق ، وأن الناصر بن علنّاس بني
المباني العجيبة المؤنقة , وأن المنصور بني فيها
قصر الملك والمنار الكوكب وقصر السلام.
وذكر صاحب كتاب الاستبصار أن بني حماد ،
لهم بالقلعة مبان عظيمة , وقصور منيعة متقنة البناء عالية السناء.
واشتهرت القلعة بالفلاحة , وتربية المواشي
والصناعة والنشاط التجاري , ووصف الإدريسي الجغرافي أهلها بأنهم أبد الدهر شباع ،
وذلك لغناها بالحبوب , وقد لخص ابن خلدون ما اشتهرت به القلعة في كلمات موجزات
فقال : استبحرت في العمارة , واتسعت بالتمدن ، ورحل إليها من الثغور القاصية
والبلد البعيد طلاب العلوم , وأرباب الصنائع ؛ لنفاق أسواق المعارف والحرف
والصنائع بها.
تأسيس بجاية :
ظلت قلعة بني حماد عاصمة للدولة
الحمادية منذ عهد مؤسسها حماد الذي توفي سنة 419هـ وحتى عهد الناصر بن علناس بن حماد ، مروراً بعهود القائد بن
حماد المتوفي سنة 446 هـ و محسن بن القائد ، الذي لم يستمر بالإمارة أكثر من تسعة
أشهر , وعهد بلكين بن محمد بن حماد ، والذي يمكن اعتباره عهداً انتقالياً بين عهدي
"محسن" و"الناصر " وذلك لما اكتنفه من أحداث داخلية...إلا أن
"الناصر" كره الإقامة في القلعة بالرغم من أنها أصبحت في عهده
عاصمة دولة قوية , تشتمل على ست ولايات هي : مليانة وحمزة (البويرة حالياً )
ونقاوس وقسنطينة ، والجزائر ، ومرسى الدجاج ، وأشير .. فأسس بجاية , وانتقل إليها في عام 461هـ .
وفي معجم البلدان كتب ياقوت الحموي ، يصف
بجاية وسبب اختطاطها وما انطوي عليه من أحداث: ...مدينة على ساحل البحر بين أفريقية والمغرب كان أول من اختطها الناصر
بن علناس بن حماد بن زيري في حدود عام 457هـ بينها وبين جزيرة مزغناي (الجزائر
العاصمة حالياً) أربعة أيام كانت قديماً ميناء فقط , ثم بنيت المدينة من لحف
جبل شاهق ، وفي قبلتها جبال كانت قاعدة ملك بني حماد وتمسى "الناصرية" أيضاً باسم بانيها , وهي مفتقرة إلى جميع البلاد , لا يخصها من
المنافع شيء إنما هي دار مملكة , تركب منها السفن وتسافر إلى جميع الجهات وبينها
وبين " ميلة " ثلاثة أيام.
وكان السبب في اختطاطها أن تميم بن المعز
بن باديس ، صاحب أفريقية أنفذ إلى ابن عمه "الناصر بن علناس" " محمد بن البعبع" رسولاً
لإصلاح حال كانت بينهما فاسدة , فمر" ابن البعبع " بموضع
"بجاية " وفيه أبيات من البربر قليلة , فتأملها حق التأمل ...وأشار عليه (أي على الناصر) ببناء
"بجاية" وأراه المصلحة في ذلك , والفائدة التي تحصل له من الصناعة
بها , وكيد العدو
.
فأمر من وقته بوضع الأساس وبناها بعسكره..
.ولما توفي الناصر سنة 481هـ واصل خلفه ما كان عليه من اهتمام بعمران المدينة ,
ولا سيما ابنه المنصور الذي خلفه في الإمارة , وكان معروفاً بولعه بالبناء ، فأسس
جامع "بجاية" وجدد قصورها ، وتأنق في اختطاط المباني ، وتشييد
القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين.
بجاية أيام الاستعمار الفرنسي :
قاومت بجاية واستعصت كثيراً على الغزاة
الفرنسيين الذين لم يتمكنوا من احتلالها في عام 1934م إلا بعد أن استخدموا آخر ما
انتجته مصانعهم من أسلحة الدمار في ذلك الوقت ,ولكنها لم ترضخ أو تستلم للاحتلال.
بل مضت تقاوم المحتلين وتحرض المؤمنين على
القتال , وتعد العدة لذلك ، روحيا وسياسياً وعلميا , وكانت الزوايا , وكتاتيب
القرآن خلايا , تنطلق منها كتائب الجهاد , وشهدت ربوع بجاية تفجر ثورات عديدة ,
لعل من أبرزها ثورة عام 1871م التي قادها محمد المقراني والشيخ بلحداد ـ وعمره يومئذ
ثمانون عاماً ـ يعاونه ولداه (عزيز ومحمد ) وأتباع الطريقة الرحمانية التي كان
بلحداد أبرز مشايخها , وبالرغم من أن الفرنسيين تمكنوا من إلقاء القبض على قادة
الثورة في غضون عام تقريبا , إلا أنها انتشرت بسرعة في مختلف المناطق , وبقيت مستمرة حتى قال عنها بعض المؤرخين : إنها أطول ثورة وأشعلها.
مؤتمر الصومام
وفي مرحلة ما قبل الاستقلال كان لـ بجاية
دورها العام في التحصين والإعداد والتحريض والتخطيط للثورة المنظمة , التي تفجرت
في فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1956م
فالمؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني الذي عرف بـ "مؤتمر الصومام " وكان
إيذاناً ببداية مرحلة جديدة في جهاد الشعب الجزائري عقد بمكان غير بعيد من بجاية ,
ففي قرية إيفري التابعة لبلدية أوزلاقن, وفي موقع على رأس جبل يرى منه ما
حوله , مفرط في الإيغال في الابتعاد عن الطرق المعهودة , شديد الانزواء وراء القمم
والأعالي , يدل اختياره على عقلية عسكرية فذة , كان يتمتع بها المجاهد الجزائري ـ
في هذا الموقع ـ عقد مؤتمر الصومام في 20 آب "أغسطس" 1956م
ومن ثم انتظمت الثورة كل شبر على أرض
الجزائر , وامتدت إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً.
النهضة الفكرية في بجاية :
بالرغم من كل ما عرف به أمراء الدولة
الحمادية من بذخ وولع بالعمارة وبناء القصور إلا أنهم اشتهروا أيضاً باهتماماتهم
الثقافية والعلمية ، واستخدام الأدباء في دواوينهم الرسمية , وتقريبهم العلماء ,
وتفضلهم على من سواهم ، والإغداق عليهم , وعقد المجالس العلمية للمناظرة , وتشجيع
المبدعين والمفكرين , فنشطت حركة فكرية علمية وسعة , وبرزت بجاية كواحدة من
الحواضر الإسلامية تضاهي بغداد والقاهرة والقيروان وغيرها.
والفضل في ذلك كله يعود إلى الأمراء
الحماديين الذين جعلوا من قصورهم ساحات فكرية , يتنافس فيها أصحاب الإمكانات في مختلف أنواع العلوم النظرية
والتجريبية
, وقد برز من الحماديين بشكل خاص
"المنصور بن الناصر "الذي بلغت بجاية في عهده درجة عالية في العلوم
والفنون ، إضافة إلى ما بلغته من ازدهار اقتصادي ورقي عمراني ، فقد كان المنصور
كاتباً وشاعراً , يتبارى في ذلك مع من اختصوا به.
أعلام بجاية :
لقد تخرج من بجاية أعلام كثيرون في الفقه ،
والأدب والشعر والطب والرياضيات وغيرها ... ورغم أن أبا العباس أحمد بن عبدالله
الغبريني ، وضع كتابه "عنوان
الدارية " للترجمة لمشايخه من علماء القرن السادس الهجري الذي يعد من أكثر
قرون بجاية ازدهاراً في الحياة العلمية والتعليمية ، إلا أنه لم يأت عليهم جميعاً
, واكتفى بأن قال بعد أن أورد مجموعة منهم :" وقد بقي خلق كثير من أهل
المائة السادسة , ممن لهم جلال وكمال , ولكن شرط الكتاب منع من ذكرهم.
وفي إطار الترجمة لأبي علي المسيلي : الذي درس ببجاية , وولي القضاء بها , وجمع بين العلم والعمل , وعرف
بأبي حامد الغزالي الصغير ، أشار الغبريني إلى حجم العلماء المجتهدين الذين قاموا
على حل المسائل الشرعية الدقيقة ...فأورد قولا لأبي علي المسيلي ، جاء فيه :
"أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً , ما منهم من يعرف الحسن بن علي
المسيلي".
لقد استطاعت بجاية أن تكون لأكثر من أربعة
قرون قبلة العلماء , ومهبطاً لأفئدة طالبي العلم ، وساحة لتبادل الأفكار والآراء ،
وميداناً للإبداع العلمي ؛ حيث راجت حركة نشطة للتأليف في الفقه والتاريخ والرياضة
والفنون والنحو وغير ذلك ... ويذكر المؤرخون أن الفرنسيين عندما غزوا بجاية
استولوا على حمولة اثنتي عشرة سفينة من الكتب القيمة جمعت من مدارس بجاية ومساجدها
ويقال إن هذه الكتب غرقت جميعها في البحر ...
أما اليوم فلم يبق من بجاية الحمادية شيء
باستثناء بعض الأبواب بأقواسها ذات الأبعاد المعمارية المتميزة ... أما القصور
ومعاهد العلم فقد دمرها المستعمرون , وبنوا على انقاضها الحصون والثكنات العسكرية
, ولكنهم وإن استطاعوا إزالة الكثير من آثار المسلمين وشواهد حضارتهم , إلا أنهم
عجزوا عن تشويه الإسلام الذي يقيض الله له دائما الأجيال التي تحمله وتدافع عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق